دعوة للمشاركة في مجلّة المعهد، عدد ٣٦ (٢٠٢١)
في سياق الإصلاح الإسلاميّ الّذي ظهر في القرن الثامن عشر عَلَتْ أصوات بعض المسلمين ضدّ ممارسة تقليد المذاهب الفقهيّة المتّهَم بأنّه مسؤولٌ عن تراجع العالم الإسلاميّ. وعلى مثال محمّد بن عبد الوهّاب (ت ١٧٩٢)، كان هناك سلفيّون من اليمن مثل محمّد بن إسماعيل الأمير الصنعانيّ (ت ١٧٦٨) ومحمّد بن عليّ الشوكانيّّ (ت ١٨٣٤)، والإصلاحيّ المغوليّ أحمد عبد الرحيم شاه (ت ١٧٦٢) أو أيضًا مفكّرون مصريّون مثل محمّد عبده (ت ١٩٠٥)، ومحمّد رشيد رضا (ت ١٩٣٥) مِمّن نادَوْا بالممارسة التجديدية للتفكير في الإسلام، أي الاجتهاد وتخطّي تقليد المذاهب الفقهيّة المُتحجِّرة وذلك استنادًا على فكر ابن تيميّة (ت ١٣٢٨/٧٢٨).
في هذا السياق كان هناك نقدٌ لاذع للتقليد وإطراءٌ شديد للاجتهاد، إلى حدّ أنْ نُظِرَ إلى التقليد والاجتهاد في هذا الإطار الإصلاحيّ باعتبارهما ضِدَّيْنِ.1
وقد أيّد المستشرقون هذه الرؤية في فهم التقليد والاجتهاد. ومع ذلك أثبت نورمان كالدر وشيرمان جاكسون أنّ هذه الرؤية اختزاليّة، أي أنّها لا تراعي بشكلٍ كافٍ ظهور كلا المفهومين وتطوّرهما ولا تعالج العلاقة بينهما سواءٌ في مجال أصول الفقه أو الدين، زِدْ على ذلك أنها تتجاهل السياقات السياسيّة.2 وبالتالي قد تكون الدلالة السلبيّة للتقليد في علوم الإسلام جزءًا من تصوّرات المحدثين (راجع: أحمد فكري).3
ومع ذلك، فإنْ صحّ أنّ أبواب الاجتهاد «لم تُغلَق» (راجع: وائل بهجت حلاق)،4 فإنّ غالبيّة العلماء من القرن الخامس الهجريّ/الحادي عشر الميلاديّ، من أمثال عبد الملك الجوينيّ (ت ١٠٨٥/٤٧٨) قد أيّدوا فكرة أنّ الإسلام نظامٌ دينيّ تامّ.5 كان هناك تصوّرٌ للتاريخ يتّسم بأنّ الإسلام وصل إلى قمّة تطوّره التشريعيّ والكلاميّ من حيث الكيف ومن حيث الكم على حدٍّ سواء، الأمر الّذي يجعل من أيّ تطوّر انحرافًا للإسلام بل تدهورًا له. لم يتمّ إلغاء الاجتهاد وظلّ جزءًا من طريقة تفكير العلماء. من ناحيةٍ أخرى، فإنّ سيطرة التقليد هي الّتي شكّكَ المصلحون في جدواها.
يمكن إذًا أن نتساءل: كيف يؤسّس كلٌّ من الاجتهاد والتقليد شرعيّتَه وهيمنته من خلال أيّ جهدٍ عقليّ؟
على المستوى الكلاميّ وفي سياقٍ تميّز بسيطرة التصوّف، أظهر مؤيّدو التقليد أنّ العلماء يمكن أن يستنيروا من خلال النور المحمّديّ، ومن ثمّ فإنّ تعاليمهم حول معرفة الله وإرادته إنّما هي تعاليم صحيحة. من هذا المنظور كانتْ سِيَر أصحاب المذاهب الفقهيّة تمثّل أدّلةً لهذا التقارب مع النور المحمّديّ. أمّا مؤيّدو الاجتهاد فقد ألقَوْا الضوء على واجب كلّ مؤمن في أن يبحث في المصادر وألّا يقبل أيّ حكم دون أن يكتشف الدليل عليه بنفسه (راجع: محمّد بن أبي بكر بن قَيِّم، ت ١٣٥٠/٧٥١).6 ومع ذلك، فإنّ هذا المنظور الّذي يدافع عنه أهلُ الحديث يرافقه أيضًا تساؤلٌ جوهريّ حول سلطة تعاليم النبيّ والصحابة. أليس اتّباع الصحابة شكلًا من أشكال التقليد؟ هل ما يُؤخَذ على أصحاب المذاهب الفقهيّة لا يمكن تطبيقه على مقلّدي النبيّ؟
بعيدًا عن هذه المناقشات الدينيّة كان انتشار التقليد والاجتهاد جزءًا من الاستراتيجيّات السياسيّة كذلك. ففي تاريخ الفقه والمذاهب تمّ استغلال الاجتهاد كأداةٍ سياسيّة من أجل الهروب من تعاليم مذهبٍ ما، بينما تمّ استغلال التقليد لتبرير موقفٍ محافظ كما كان أيضًا قوةً موجّهة نحو الاستقرار وحسن الإدارة.7 لكن، من جهةٍ أخرى، إذا كان تقليد المذاهب المختلفة يعارض وحدة الأمّة كتعبيرٍ بشريّ عن الوحدانيّة الإلهيّة فإنّ تعدّديّة الآراء المنبثقة من ممارسة التقليد قد ضمنتْ في الإسلام شكلًا من أشكال التعدّديّة ومصدرًا ضدّ كلّ إغراءات تنميط الآراء في ما بعد الحداثة.8 لا يحدث هذا بالطبع دون نقاش. في القرن السادس الهجريّ/ الثاني عشر الميلاديّ ومن بين علماء الأشعريّة، يقبل الغزاليّ (ت ١١١١/٥٠٥) أنّه في حالة وجود آراء متناقضة للمذاهب فجميعها على حقّ، بينما يرفض هذا الحكمَ محمّدٌ بن عمر الرازيّ (ت ١٢٠٩/٦٠٦؟) وأحمدُ بن إدريس القرافيّ (ت ١٢٨٥/٦٨٤). كما أنّ الفقيه الحنبليّ ابن تيميّة (ت ١٣٢٨/٧٢٨) يعارض الغزاليّ في نقده للتقليد.
لذلك تُعدّ العلاقة بين التقليد والاجتهاد معقّدةً للغايّة. يقترح هذا العدّد من مجلّة المعهد تعميق المنطقَيْن على ضوء التراث الإسلاميّ. حيث يثبت تاريخ الفكر الإسلاميّ أنّه قد تمّ التمييز بين أصول الفقه وفروعه وأنّه تمّ إعداد مفاهيم ذات صلة مثل: الاختلاف والاتّباع والإجماع والترجيح وتمّ تقييم التقليد بأشكالٍ مختلفة مثل: حرام ومذموم ومباح أو أيضًا التمييز بين درجات الاجتهاد. وسيكون من الضروريّ البحث في هذه المفاهيم المختلفة ذات الصلة. وسيتمّ التأكيد على الخُطب الدينيّة المبرّرة أو الناقدة لهذه الظاهرة وأيضًا علاقتها ببعضها ممّا قد تكون متناقضة في ذاتها مثل نقد الغزاليّ للفلاسفة.9 على ضوء هذا التنافس بين التقليد والاجتهاد ينبغي على الباحثين أن يدرسوا حقيقة الاتّصال المستمرّ بينهما وأنّه حتّى وإنْ كانتْ الطموحاتُ المهيمنة متنافسةً لكنّها ليستْ متعارضة.10
1 Peters, Rudolph, “Idjtihâd and Taqlîd in 18th and 19th Century Islam”, Die Welt des Islams 20, 1980, p. 131‒146.
2 Calder, Norman, “Taḳlid”, The encyclopedia of Islam, new edition, p. 137‒138.
3 Fekry, Ahmed, “Rethinking the Taqlīd–Ijtihād Dichotomy: A Conceptual-Historical Approach”, Journal of the American Oriental Society, Vol. 136, No. 2, 2016, p. 285‒303.
4 Hallaq, Wael B., “Was the Gate of Ijtihad Closed?”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 16, No. 1, 1984, p. 3‒41.
5 Nagel, Tilman, Die Festung des Glaubens. Triumph und Scheitern des islamischen Rationalismus im 11. Jahrhundert, Munich, C. H. Beck, 1988. See : Gilliot, Claude, « Quand la théologie s’allie à l’histoire : triomphe et échec du rationalisme musulman à travers l’œuvre d’al- Ǧuwaynī », Arabica, T. 39, Fasc. 2, 1992, p. 241‒260.
6 Abdul Rahman Mustafa, On Taqlīd. Ibn al-Qayyim’s Critique of Authority, Oxford University Press, 2013.
7 Rapoport, Yossef, “Legal Diversity in the Age of Taqlīd: The Four Chief Qāḍīs under the Mamluks”, Islamic Law and Society, Vol. 10, No. 2, 2003, p. 210‒228.
8 Shahab, Ahmed, What is Islam? The Importance of Being Islamic, Princeton University Press, 2016.
9 Al-Ġazālī, The Incoherence of the Philosophers (tahāfut al-falāsifa), A parallel English-Arabic text, translated, introduced, and annotated by Michael E. Marmura, Provo, Utah, Brigham Young University Press, 2000, p. 2‒3. See: Griffel, Frank, “Taqlīd of the Philosophers: al-Ġazālī’s Initial Accusation in his Tahāfut”, in: Sebastian Günther (ed.), Ideas, Images, and Methods of Portrayal. Insights into Classical Arabic Literature and Islam, Leiden-Boston, Brill, 2005, p. 273‒296.
10 Jackson, Sherman, Islamic Law and the State: The Constitutional Jurisprudence of Shihāb al-Dīn al-Qarāfī, Leiden, E. J. Brill, 1996.