ميشيل كويبرس، في نظم سورة المائدة – نظم آي القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغيّ، دار المشرق، بيروت، ٢٠١٦.
إنّ ترجمة هذا الكتاب العربيّة تقدّم إلى الجمهور الناطق بالعربيّة طريقةً جديدة لتناوُل مسألة تفسير القرآن، لا آيةً آية (كما في التفاسير التقليديّة)، ولا بحسب تكوّن النصّ (كما في النقد التاريخيّ الغربيّ، بتفكيك النصّ)، بل انطلاقًا من تحليل تركيب النصّ، كما يظهر في المصحف العثماني، من دون أيّ تغيير. وقد أُعِدّ هذا المنهج شيئًا فشيئًا طوال القرنَين الأخيرَين في تفسير الكتاب المقدّس، وهو يُطبَّق للمرّة الأولى على نصّ القرآن. فإنّ النصوص المقدّسة الخاصّة بالشرق الأوسط الساميّ القديم، من نصوص توراتية وإنجيليّة وقرآنيّة، وغيرها، تُطيعُ بالفعل قوانين تركيبيّة أخرى غير نصوص التراثَين اليونانيّ واللاتينيّ اللذَين ورثنا منهما جميعًا، بما فينا العرب. وهذه النصوص مؤلّفة بطريقة خطّيّة، انطلاقًا من مقدّمة، ثمّ عرض متواصل للموضوع، ثمّ خاتمة؛ في حين أنّ نصوص التراث الساميّ مركّبة بحسب مجموعة معقّدة من أجزاء منظّمة بطريقة متناظرة، إمّا من حيث تشابه المعنى، وإمّا من حيث التعارُض. وكثيرًا ما يفصلُ مركزٌ أو يصِلُ جزأين متناظرَين، مُقترحًا مفتاحَ شرحٍ لمجمل النصّ. وإنّ هذا المنهج، إذ طُبِّق على القرآن، يسمح بإدراك وحدة السُوَر وترابُطها، حتّى السُور الأشدّ تعقيدًا التي غالبًا ما تترك القارئ حائرًا، شاعرًا بالضياع. وهذه حالُ سورة المائدة موضوع دراستنا. فإنّ تحليل تركيب النصّ، بحسب قوانين البلاغة الساميّة، يسمحُ بتوحيد كثرة الموضوعات المعالَجة في هذه السورة حول موضوع العهد: من جهة، يُستَحَثّ المؤمنون المسلمون على احترام أحكام العهد الإسلاميّ الذي يحتفلون به في أثناء حجّهم إلى الكعبة؛ وثمّة قواعد عدّة مُقترَحة كذلك لتنظيم الجماعة داخليًّا، وفي صلتها بأهل الكتاب. من جهة أخرى، يتمّ شجب سلوك أهل الكتاب الذين رفضوا الدخول في العهد الإسلاميّ، ويُستحَثّون على الدخول فيه.
إنّ منهج التحليل البلاغيّ يُبرزُ بوجهٍ خاصّ أهمّيّةَ مراكز التراكيب المحوريّة (ABC/x/C’B’A’) التي غالبًا ما تلطّف، بطريقة دلاليّة، صرامةَ بعض الأحكام، كقانون القصاص على سبيل المثال، وقد تجاوزته أخلاقٌ متفوّقة على الشريعة (الآية 45)، أو تفتحُ آفاقَ خلاص لأهل الكتاب (الآيتان 48 و69)، ما يلاقي بعض بعض القضايا العصريّة شديدة الأهميّة.
ترافقُ تحليلَ تركيب النصّ بعضُ التشابيه بنصوص من التوراة أو الأناجيل أو من أسفار منتحَلة يهوديّة أو مسيحيّة، كلّما يبدو القرآن “مُعيدًا قراءة” تلك النصوص، مُطابقًا إيّاها لمنظوره اللاهوتيّ الخاصّ. وهكذا، فإنّ كلَّ آية من آيات سورة المائدة ترِد، في آنٍ واحد، ضمن سياقها الأدبيّ المباشَر الذي ليس إلّا التركيب الذي هو جزءٌ منه، وأيضًا في سياقها الأدبيّ الخارجيّ، سياق الكتابات السابقة القرآن، والتي غالبًا ما يشيرُ الكتاب نفسُه إليها.
وثمّة ملحق مؤلّف من حوالى العشرين صفحة يعالجُ قضيّة نَظم القرآن (قراءة في تاريخ التفاسير). إنّه يحدّدُ التحليلَ البلاغيّ ضمنَ تواصُل مسألة نظم القرآن التقليديّة، كما يحدّدُه إزاءَ النقد التاريخيّ المعتمَد في الأبحاث الغربيّة الحديثة.
إنّ الكتابَ الذي بين أيدينا يؤلّفُ إذًا تتمّة طبيعيّة للكتاب المشترَك الذي نُشر العام 1993 في دار النشر نفسها وأعيد نشره العام 2004: طريقة التحليل البلاغيّ والتفسير (تحليلات نصوص من الكتاب المقدّس ومن الحديث النبويّ الشريف).